د. محمد عبد الرءوف :_ عقد إجتماعي جديد في عالم ما بعد كوفيد-19
بداية يجب أن نشكر الله أن الكورونا ظهر في عصر الإنترنت ووسائل الإتصال الحديثة فبحق أن ميلاد هذه الإختراعات ليناسب ويواكب للعصر قبدونها لعانت البشرية جمعاء في متابعة ومنع إنتشار الفيروس ومحاولة السيطرة عليه وأضف لذلك لضجرنا جميعاً في عزلتنا الإجتماعية في المنازل!
ومما لاشك فيه أن التداعيات الصحية والاقتصادية لفيروس كورونا علي الإقتصادات المحلية والعالمية خطيرة وتنذر، في رأي المتواضع، بكساد عالمي وشيك إذا لم تتغلب البشرية في حربها علي الفيروس خلال شهرين علي الأكثر من الان. ليس هذا فقط بل أيضاُ علي الجانب الإجتماعي فالفيروس أوضح مدي هشاشة العقد الاجتماعي في كثير من مجتمعاتنا الحديثة وأن هناك حاجة لإصلاحات جذرية لتشكيل مجتمع يعمل لصالح الجميع.
لكن الخبر السعيد أن محنة الفيروس منحتنا إيجابيات كثيرة يمكن اختصارها في أنه قفز بنا الي المستقبل! نعم للمستقبل الصحي والذكي والمستدام حيث يكون الفرد متصلاً ، وإنسانيًا ، ويعيش حياة أبسط، و أقل تلويثاً.
فعلي الجانب البيئي فالمزايا عديدة والفوائد عظيمة فالحد من السفر وإغلاق المصانع كلياً وجزئياً منح إستراحة للبيئة والسماء والهواء...الخ. هل تصدق أن تشهد أجزاء من الصين سماءً زرقاءً للمرة الأولى منذ أمد مع إغلاق المصانع هناك. كما لحقت إيطاليا وأسبانيا بالصين حيث كشفت صور الأقمار الصناعية عن أن تلوث الهواء في إنحفض بشكل حاد بعد أن أجبر الفيروس السلطات علي إغلاق المصانع وحظر السفر بالإضافة إلي أن العمل من المنزل بدلاً من الإنتقال إلى العمل وتحولت المدن المكتظة بالسيارات والإنبعاثات الكربونية الي مدن أشباح. فالوباء البشري صحح من أوضاع المناخ المتأزمة منذ عقود (بصورة مؤقتة) ولكنه أثبت للجميع أن الإقتصاد منخفض الكربون أمر سهل ممكن تحقيقه علي أرض الواقع.
وعلي الجانب الاجتماعي منحنا الفيروس فرصة لإعادة التواصل بالعائلة حيث أصبحنا نقضي وقت أطول في المنزل خاصة مع أجازات المدارس والأمهات بالإضافة الي العمل من المنزل لكثير من المهن. إنها فرصة للتأمل العميق وتهدئة الذات وتدعم أهمية الإحساس بالتكافل والتضامن (الاسرة ، الحي ...معا) في المجتمعات فرأينا كيف يدعم اللبنانيون والايطاليون مثلاً بعضهم البعض بالغناء والموسيقي من شرفات منازلهم. فالسؤال الهام هنا هو ما إذا كانت المشاعر الحالية تجاه هدف مشترك ستشكل المجتمع فيما بعد الأزمة؟.
الإجابة بإختصار أنه بلا شك أن كثير من التغيرات الإجتماعية ستستمر بعد إنتهاء الأزمة خاصة مع ثبوت العديد من مزاياها الإقتصادية والبيئة للأفراد والشركات والدول بل والعالم أجمع. فمثلاً سيشهد العالم إتجاها متزايداً للسماح للموظفين فى مختلف القطاعات بالعمل من المنزل. فلماذا يتحمل صاحب العمل تكاليف إستثمارية وتشغيلية لمساحة عمل مكتبية اقدرها بحوالي 7000 دولار في المتوسط سنويا (من توفير مكتب وحاسب الي وتكاليف إنتقالات وكهرباء...الخ)..
في الوقت الذي يمكن فيه إنجاز العديد من مهام العمل اليومية العمل من المنزل وسيتم الحكم علي أداء الموظف بناءً علي الإنتاجية وليس ساعات العمل التى يقضيها العامل. لكننا بالطبع بحاجة الي مجتمع وشركات مجهزة بالبرامج التكنولوجية وأدوات الفيديو كونفرانس اللازمة وغيرهم لضمان فاعلية أداء الأعمال والإجتماعات. أضف لذلك أن ظاهرة "التعلم عن بعد" التي صاحبت إنتشار الفيروس- متخطية حواجز المكان والزمان بطريقة جذابة وتفاعلية مصحوبة بمؤثرات بصرية وسمعية ستحل محل من غالبية العملية التعليمية "الجامدة".
يخطيء من يظن أن ضحايا كوفيد-19 هم من كبار السن فقط. بل الرجال والشباب ممن يمثلوا قوة العمل الأساسية بالمجتمعات من أكبر ضحايا عمليات الإغلاق، الذين يُطلب منهم تعليق تعليمهم ووظائفهم وأعمالهم خاصة أن الكثير منهم في أمس الحاجة لهذا الدخل اليومي أو الشهري. لكن بلا غرو أن التضحيات أمر لا مفر منه، فالنضال من أجل إحتواء الوباء عن كشف عدم اإستعداد الأنظمة الصحية وكذلك هشاشة إقتصادات غالبية البلدان، حيث تتدافع الحكومات لدرء حالات الإفلاس الجماعي والتعامل مع البطالة الجماعية.
لكنه يجب على كل مجتمع أن يثبت كيف سيقدم التعويض لمن يتحملون العبء الأكبر للجهود الوطنية ووضع سياسات مستقبيلة لضمان عقد إجتماعي قوي، سليم، متوازن وعادل.
بكل ثقة نستطيع القول أنه ستكون هناك إصلاحات جذرية مختلفة تماماً عما كان سائد بعد الحرب العالمية الثانية وحتي الأن من أهم ملامحها:_
- سيتعين على الحكومات قبول دور أكثر نشاطاً في الاقتصادي عكس الإتجاه العام في العقد الأخير خاصة حيث بات يتحتم عليهم يجب أن ينظروا إلى الخدمات العامة على أنها استثمارات بدلاً أنها التزامات. ومن أهم الخدمات العامة أو السلع العامة (البيئة بمفرداتها وخدماتها) فهي سلعة عامة لا يقلل إستهلاكها أو إستخدامها من قبل فرد الكمية المتاحة للخرين، وبالتالي فإن السلع العامة ليست مستبعدة وغير متنافسة.
- سيتعين علي الحكومات أن تبحث عن طرق لجعل أسواق العمل أكثر أمناً. كما ستكون إعادة التوزيع للدخل والثروة (عن طريق الضرائب مثلاً) علي أعلي جدول الأعمال.
- سيصبح العمل والتعلم من المنزل واقع ولو بصورة جزئية وسيتحتم دعم المجتمعات بالتكنولوجيات اللازمة خاصة أن العديد منها متاح حالياً.
- ستصبح قضايا البيئة وتغير المناخ علي سلم الأولويات ليس فقط نتيجة لما شهد العالم من أزمات نتيجة الفيروس ومن قبله حرائق غابات الأمازون وأستراليا وفقدان التنوع البيولوجي...الخ بل لأن حماية الموارد البيئة هي حماية لأصول الأمم وثرواتها والأزمة أوضحت بجلاء أنه في الإمكان في ظل التكنولوجيات المتاحة حالياً تحقيق الإقتصاد الخالي من الكربون بإجراءات وسياسات سهلة التطبيق.
يقول الحق سبحانه وتعالي في كتابه الكريم في سورة البقرة " وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ"، فطبقاً لاحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن تلوث الهواء يتسبب في 7 ملايين حالة وفاة سنوياً حول العالم. اي أضعاف مضاعفة لوفيات الفيروس الحالية والمتوقعة فلربما أراد الفيروس تنبيهنا بأهمية تحسين جودة الهواء والبيئة بصفة عامة كي نحيا نحن وأطفالنا وأحفادنا حياة أفضل.
خلاصة القول فإنه بلا شك شئنا أم أبينا فإن عالم ما بعد كورونا سوف ينتج قيم وأولويات مختلفة وواقع إجتماعي جديد بعقد إجتماعي جديد.